الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **
وقوله: (1) ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات علو الله على خلقه ست آيات. الآية الأولى: قوله : الخطاب لعيسى بن مريم الذي خلقه الله من أم بلا أب ، ولهذا ينسب إلى أمه ، فيقال : عيسى ابن مريم. يقول الله : القول الأول: {متوفيك} ؛ بمعنى قابضك ، ومنه قولهم : توفى حقه؛ أي: قبضه. القول الثاني: {متوفيك} : منيمك ؛ لأن النوم وفاة ؛ كما قال تعالى: القول الثالث: أنه وفاة موت : {متوفيك} : مميتك ، ومنه قوله تعالى : والقول بأن {متوفيك} متوفيك بمعنى مميتك بعيد؛ لأن عيسى عليه السلام لم يمت، وسينزل في آخر الزمان ؛ قال الله تعالى: بقى النظر بين وفاة القبض ووفاة النوم ، فنقول : إنه يمكن أن يجمع بينهما فيكون قابضاً له حال نومه ؛ أي أن الله تعالى ألقى عليه النوم؛ ثم رفعه ، ولا منافاة بين الأمرين. قوله: {ورافعك إلى} : الشاهد هنا ؛ فإن {إلي} تفيد الغاية ، وقوله: يدل على أن المرفوع إليه كان عالياً، وهذا يدل على علو الله عز وجل. فلو قال قائل : المراد : رافعك منزلة ؛ كما قال الله تعالى :
قلن هذا لا يستقيم ؛ لأن الرفع هنا عدى بحرف يختص بالرفع الذي هو الفوقية؛ رفع الجسد، وليس رفع المنزلة. واعلم أن علو الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: علو معنوي ، وعلو ذاتي: 1-أما العلو المعنوي ؛ فهو ثابت لله بإجماع أهل القبلة ؛ أي: بالإجماع من أهل البدع وأهل السنة؛ كلهم يؤمنون بأن الله تعالى عال علواً معنوياً . 2-وأما العلو الذاتي ؛ فيثبته أهل السنة ، ولا يثبته أهل البدعة ؛ يقولون : إن الله تعالى ليس عالياً علواً ذاتياً. فنبدأ أولاً بأدلة أهل السنة على علو الله سبحانه وتعالى الذاتي فنقول : إن أهل السنة استدلوا على علو الله تعال علواً ذاتياً بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة : أولاً : فالكتاب تنوعت دلالته على علو الله ؛ فتارة بذكر العلو، وتارة بذكر القوقية ، وتارة بذكر نزول الأشياء من عنده، وتارة بذكر صعودها إليه، وتارة بكونه في السماء. . . (1) فالعلو مثل قوله: (2) والفوقية: (3) ونزول الأشياء منه ؛ مثل قوله: (4) كونه في السماء ؛ مثل قوله : ثانياً : وأما السنة فقد تواترت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله وإقراره : (1) فأما قول الرسول عليه الصلاة والسلام : فجاء بذكر العلو والفوقية ، ومنه قوله ، صلى الله عليه وسلم وجاء بذكر أن الله في السماء ؛ مثل قوله ، صلى الله عليه وسلم: (2) وأما الفعل ؛ فمثل رفع أصبعه إلى السماء ، وهو يخطب الناس في أكبر جمع ، وذلك في يوم عرفة ، عام حجة الوداع ؛ فإن الصحابة لم يجتمعوا اجتماعاً أكبر من ذلك الجمع؛ إذ إن الذي حج معه بلغ نحو مئة ألف ، والذي مات عنهم نحو مئة وأربعة وعشرين ألفاً: يعني: عامة المسلمين حضروا ذلك الجمع، فقال عليه الصلاة والسلام : ومن ذلك رفع يديه إلى السماء في الدعاء. وهذا إثبات للعلو بالفعل. (3) وأما التقرير ؛ فإنه في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه؛ ثالثاً: وأما دلالة الإجماع؛ فقد أجمع السلف على أن الله تعالى بذاته في السماء ، من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ، إلى يومنا هذا. إن قلت كيف أجمعوا؟ نقول: إمرارهم هذه الآيات والأحاديث مع تكرار العلو فيها والفوقية ونزول الأشياء منه وصعودها إليه دون أن يأتوا بما يخالفها إجماع منهم على مدلولها. ولهذا لما قال شيخ الإسلام: "إن السلف مجمعون على ذلك"؛ قال: "ولم يقل أحد منهم : إن الله ليس في السماء ، أو : إن الله في الأرض ، أو : إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل، أو : إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه". رابعاً: وأما دلالة العقل؛ فنقول: لا شك أن الله عز وجل إما أن يكون في العلو أو في السفل ، وكونه في السفل مستحيل؛ لأنه نقص يستلزم أن يكون فوقه شيء من مخلوقاته فلا يكون له العلو التام والسيطرة التامة والسلطان التام فإذا كان السفل مستحيلاً ؛ كان العلو واجباً. وهناك تقرير عقلي آخر ، وهو أن نقول : إن العلو صفة كمال باتفاق العقلاء ، وإذا كان صفة كمال ؛ وجب أن يكون ثابتاً لله؛ لأن كل صفة كمال مطلقة؛ فهي ثابتة لله. وقولنا : "مطلقة": احترازاً من الكمال النسبي ، الذي يكون كمالاً في حال دون حال؛ فالنوم مثلاً نقص، ولكن لمن يحتاج إليه ويستعيد قوته به كمال. خامساً : وأما دلالة الفطرة: فأمر لا يمكن المنازعة فيها ولا المكابرة ؛ فكل إنسان مفطور على أن الله في السماء ، ولهذا عندما يفجؤك الشيء الذي لا تستطيع دفعه، وإنما تتوجه إلى الله تعالى بدفعه؛ فإن قلبك ينصرف إلى السماء حتى الذين ينكرون علو الذات لا يقدرون أن ينزلوا أيديهم إلى الأرض. وهذه الفطرة لا يمكن إنكارها. حتى إنهم يقولون : إن بعض المخلوقات العجماء تعرف أن الله في السماء كما في الحديث الذي يروى أن سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام وعلى أبيه خرج يستسقي ذات يوم بالناس ، فلما خرج ؛ رأى نملة مستلقية على ظهرها ، رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: "اللهم ! إنا خلق من خلقك ، ليس بنا غنى عن سقياك" . فقال: "ارجعوا ؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم". وهذا إلهام فطري. فالحاصل أن : كون الله في السماء أمر معلوم بالفطرة. ووالله ؛ لولا فساد فطرة هؤلاء المنكرين لذلك ؛ لعلموا أن الله في السماء بدون أن يطالعوا أي كتاب ؛ لأن الأمر الذي تدل عليه الفطرة لا يحتاج إلى مراجعة الكتب. والذين أنكروا علو الله عز وجل بذاته يقولون : لو كان في العلو بذاته ؛ كان في جهة، وإذا كان في جهة؛ كان محدوداً وجسماً ، وهذا ممتنع ! والجواب عن قولهم : "إنه يلزم أن يكون محدوداً وجسماً، وهذا ممتنع! والجواب عن قولهم: "إنه يلزم أن يكون محدوداً وجسماً" ؛ نقول: أولاً: لا يجوز إبطال دلالة النصوص بمثل هذه التعليلات ، ولو جاز هذا ؛ لأمكن كل شخص لا يريد ما يقتضيه النص أن يعلله بمثل هذه العلل العليلة. فإذا كان الله أثبت لنفسه العلو ، ورسوله ، صلى الله عليه وسلم أثبت له العلو، والسلف الصالح أثبتوا له العلو ؛ فلا يقبل أن يأتي شخص ويقول : لا يمكن أن يكون علو ذات؛ لأنه لو كان علو ذات ؛ لكان كذا وكذا. ثانياً : نقول : إن كان ما ذكرتم لازماً لإثبات العلو لزوماً صحيحاً ؛ فلنقل به ؛ لأن لازم كلام الله ورسوله حق ؛ إذ أن الله تعالى يعلم ما يلزم من كلامه. فلو كانت نصوص العلو تستلزم معني فاسداً، لبينه، ولكنها لا تستلزم معني فاسداً. ثالثاً: ثم نقول: ما هو الحد والجسم الذي أجلبتم علينا بخيلكم ورجلكم فيها. أتريدون بالحد أن شيئاً من المخلوقات يحيط بالله؟ فهذا باطل ومنتف عن الله، وليس بلازم من إثبات العلو لله أو تريدون بالحد أن الله بائن من خلقه غير حال فيهم؟ فهذا حق من حيث المعني، ولكن لا نطلق لفظه نفياً ولا إثباتاً، لعدم ورود ذلك. وأما الجسم، فنقول: ماذا تريدون بالجسم؟ أتريدون أنه جسم مركب من عظم ولحم وجلد ونحو ذلك؟ فهذا باطل ومنتصف عن الله، لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. أم تريدون بالجسم ما هو قائم بنفسه متصف بما يليق به؟ فهذا حق من حيث المعني، لكن لا نطلق لفظه نفياً ولا إثباتاً، لما سبق. وكذلك نقول في الجهة، هل تريدون أن الله تعالي له جهة تحيط به؟ فهذا باطل، وليس بلازم من إثبات علوه. أم تريدون جهة علو لا تحيط بالله؟ فهذا حق لا يصح نفيه عن الله تعالي.
(1) الآية الثانية: قوله: · ( بل (: للإضراب الإبطالي، لإبطال قولهم: والشاهد قوله: · {إليه}: إلي الله عز وجل. · فالكلمات تصعد إلي الله، والعمل الصالح يرفعه الله، وهذا يدل على أن الله عال بذاته، لأن الأشياء تصعد إليه وترفع.
(2) الآية الرابعة: قوله: هامان وزير فرعون، والآمر بالبناء فرعون. · {صرحاً}، أي بناء عالياً. · · وأيا كان، فقد قال: · الشاهد من هذا: أن أمر فرعون ببناء صرح يطلع به على إله موسي يدل على أن موسي صلى الله عليه وسلم قال لفرعون وآله: إن الله في السماء. فيكون علو الله تعال ذاتياً قد جاءت به الشرائع السابقة.
(1) الآية الخامسة والسادسة: قوله: · والذي في السماء هو الله عز وجل، لكنه كني عن نفسه بهذا، لأن المقام مقام إظهار عظمته، وأنه فوقكم، قادر عليكم، مسيطر عليكم، مهيمن عليكم، لأن العالي له سلطة على من تحته. · والجواب: لا تأمن والله! بل نخاف على أنفسنا إذا كثرت معاصينا أن تخسف بنا الأرض. والانهيارات التي يسمونها الآن: أنهياراً أرضياً، وانهياراً جبلياً .. وما أشبه ذلك هي نفس التي هدد الله بها هنا، لكن يأتون بمثل هذه العبارات ليهونوا الأمر على البسطاء من الناس. · · فالله عز وجل هددنا من فوق ومن تحت، قال الله تعالى : وهنا ذكر الله نوعين منها: الحاصب والخسف. والشاهد من هذه الآية هو قوله: والذي هاهنا إشكال، وهو أن (في) للظرفية، فإذا كان الله في السماء، و(في) للظرفيه، فإن الظرف محيط بالمظروف ! أرأيت لو قلت: الماء في الكأس، فالكأس محيط بالماء وأوسع من الماء ! فإذا كان الله يقول: فما الجواب على هذا الإشكال؟ قال العلماء: الجواب أن نسلك أحد طريقين: 1- فإما أن نجعل السماء بمعني العلو، والسماء معني العلو وارد في اللغة، بل في القرآن ، قال تعالي: فيكون معني ولا يوجد إشكال بعد هذا، فهو في العلو. ليس يحاذيه شىء، ولا يكون فوقه شىء. 2- أو نجعل " في " بمعنى " على " ، ونجعل السماء هي السقف المحفوظ المرفوع، يعني: الآجرام السماوية، وتأتي " في " بمعنى " على " في اللغة العربية، بل في القرآن الكريم، قال فرعون لقومه السحرة الذين آمنوا: فيكون معني ولا إشكال بعد هذا. فإن قلت: كيف تجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالي: فالجواب: أن نقول: أما الآية الأولي، فإن الله يقول: أما الآية الثاني: فتخرج هذه الآية كتخريج التي قبلها. وقيل المعني: وهذا المعني فيه شيىء من الضعف، لأنه يقتضي تفكيك الآية وعدم ارتباط بعضها ببعض، والصواب الأول: أن نقول: من الفوائد المسلكية في هذه الآيات: أن الإنسان إذا علم بأن الله تعالي فوق كل شيء، فإنه يعرف مقدار سلطانه وسيطرته على خلقه، وحينئذ يخافه و يعظمه، وإذا خاف الإنسان ربه وعظمه، فإنه يتقيه ويقوم بالواجب ويدع المحرم.
|